الافتتاحية

استجابةً لطلب العديد من الأساتذة والباحثين في الوطن العربي وخارجه، قرر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع معهد الدوحة للدراسات العليا، إضافة دورية إلى باقة دورياتهما الأكاديمية المتخصصة هي دورية حِكامة للإدارة والسياسات العامة، إذ يواجه المتخصصون في مجالَي الإدارة العامة والسياسات العامة مشكلة قلة منابر النشر العربية العلمية المحكّمة، سيرًا على نهج إهمال هذه التخصصات حفاظًا على الفراغ القائم بين العلوم الاجتماعية والسياسية من جهة، ومناهج الإدارة والسياسات المطبقة في الدول من جهة أخرى. أما علم الإدارة فبات مقصورًا على إدارة الأعمال فقط. والحقيقة أن إدارة مؤسسات الدول والمؤسسات العامة، ووضع السياسات العامة في الاقتصاد والصحة والتعليم والبيئة وغيرها، هما عِلمان أيضًا. يدرك صناع القرار ذلك، ويستعينون بخبراء متخصصين وموظفين مدربين في مدارس الإدارة وغيرها، ولكنهم يتجنبون تشجيع الأبحاث في الإدارة والسياسات العامة. وليس هذا "المزاج" غير المكترث بالبحث العلمي مقصورًا على هذين المجالين، فحالهما كحال العلوم الاجتماعية عمومًا. 

وينوي المركز العربي تقديم إسهامٍ متواضع في سد هذا الفراغ عبر تأسيس هذه الدورية المحكّمة التي تبدأ نصف سنوية، ويمكن تحويلها إلى فصلية بعد تقييم مدى نجاح التجربة لناحية توافر الدراسات النوعية.

يشيع فهمٌ ضيقٌ للإدارة والسياسات العامة، يُحوَّل بموجبه تميز هذه المجالات وخصوصيتها إلى فصل عن السياسة. وبحسب هذا الفهم نفسه، فإن عملية صنع السياسات العامة تنحصر في جوانبها الفنية والتنفيذية، ويقوم عليها متخصصون فنيون فقط، أمّا تنفيذ هذه السياسات وإدارة المؤسسات العامة للدولة فعمليةٌ تنظيمية خالصة، يتولاها موظفون يعملون لدى الدولة. وتُعالَج إشكاليات الإدارة والسياسات العامة، غالبًا، باعتبارها مسائل فنية تغيب عنها الإشكالات المفهومية والأهداف الاستراتيجية المتعلقة بالتنمية والنهوض بالبلدان العربية ومجتمعاتها. ولا شك في أن الجانب المهني وإتقانه والبحث فيه أمر مهمّ، ولهذا سمّينا هذه الدورية حِكامة، على وزن فِعالة الذي غالبًا ما يصوغ ألفاظ النشاط الإنساني المهني مثل صناعة وتجارة وإدارة، فترجمنا في تسمية المجلة لفظ Governance "حِكامة" (وليس حوكمة مثلًا). ولكن الدورية، إذ تشدد على ذلك، فهي تشدد أيضًا على تجاوزه إلى البحث النظري النقدي الذي لا يفصل الإدارة والسياسات العامة عن فهم السياسة التي تصنع السياسات.

ويفاقم ضعفُ اهتمام المؤسسات التعليمية بحقلَي الإدارة العامة والسياسات العامة، وندرة المراكز والمشاريع البحثية التي تهتم بدراسة موضوعاتهما على هذا النحو، حدّةَ الإشكالية.

تتطلب جهود الإصلاح والتنمية السياسية وبناء الحكم الرشيد في بلداننا العربية منهجًا علميًا في وضع السياسات وفي الإدارة، كما تتطلب نظرةً أشمل للإدارة والسياسات العامة، بحيث تعالج الجوانب الإدارية والفنية للإدارة والسياسة، ولكن لا تفصل بينهما وبين السياسة، وإنما تقوم على بناء فهمٍ جديد ومستحقٍ لهما.

هذه هي الغاية الأساسية المرجوّة من دورية جديدة، بعنوان حِكامة. وهي الدورية المحكّمة السادسة التي يصدرها المركز ضمن رسالته الرامية إلى النهوض بالبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتعزيز إنتاج المعرفة العلمية باللغة العربية.

نطرح حِكامة في هذا الإطار باعتبارها قوةَ دفعٍ فكري جديدة غايتُها تشجيع البحث العلمي في التخصصين المذكورين، في حدود حقل التخصص، وفي تجاوزه أيضًا نحو تداخل التخصصات، وعبر توسيع حدود الحقل بما يستعيد الأركان السياسية والاجتماعية للإدارة والسياسات العامة، ومساحةً للتفكير والنقاش العلمي حول ما ينبغي لنظم الحكم العربية، بقيمها ومؤسساتها وأجهزتها وسياساتها، أن تقوم به وتنهض إليه من أجل نقل المجتمعات العربية إلى مجتمعات حديثة سياسيًا وعادلة اجتماعيًا.

ننشد في حِكامة أن تكون منبرًا مهنيًا أكاديميًا رصينًا، ومساحة للنقاش العلمي وطرح الرؤى البحثية النظرية والتطبيقية في مجالَي الإدارة العامة والسياسات العامة في الوطن العربي، انطلاقًا من تقييم الأثر الذي تحدثه السياسات العامة في حياة المواطنين Citizen-Centered، بهدف إنتاج معرفة موجهة لحل مشكلات الإدارة والسياسات العامة Problem-Solving Oriented Research في القطاعات كافة.

تأمل حِكامة أن تكون عونًا للباحثين المتخصصين؛ ليس فقط بتقديم منصة للنشر في أجواء بحثية أكاديمية هي أجواء المركز العربي للأبحاث ومعهد الدوحة للدراسات العليا، وإنما أيضًا ببذل الجهد في تحكيم الأوراق الواردة عند أفضل الزملاء المتخصصين، وتحريرها علميًا ولغويًا. كما تأمل هيئة تحرير الدورية أن يخدم صدورها وتوزيعها الدائرة الأوسع من المعنيين بمجال الحكم وصنع السياسات، وتنفيذها، وإدارة المؤسسات العامة للدولة، سواء أكانوا من نخبة الدولة ومسؤوليها والعاملين فيها، أم من مؤسسات المجتمع المدني المنتمية إلى الفضاء العام، والتي يرتبط مجال اهتمامها بالسياسات العامة.

ليس التأسيس سهلًا، وبناء المؤسسات عملٌ سامٍ ونبيل، والاستمرار والحفاظ على المستوى في حالة المؤسسات الأكاديمية، لا يقلّان صعوبة، ولكن التجربة علمتنا أنه في حالة الدوريات العلمية توضع مقومات الاستمرار منذ البداية، بوضع معايير النشر وعدم التهاون بشأنها من العدد الأول، حتى لو كان الكيف على حساب الكمّ، فالكمّ يأتي لاحقًا على أسس سليمة.

نبارك لهيئة تحرير المجلة وللباحثين في مجالَي تخصصها هذا الإنجاز ونتمنى لهم التوفيق.

حمّل المادة حمّل العدد كاملا الإشتراك لمدة سنة

ملخص

زيادة حجم الخط

استجابةً لطلب العديد من الأساتذة والباحثين في الوطن العربي وخارجه، قرر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع معهد الدوحة للدراسات العليا، إضافة دورية إلى باقة دورياتهما الأكاديمية المتخصصة هي دورية حِكامة للإدارة والسياسات العامة، إذ يواجه المتخصصون في مجالَي الإدارة العامة والسياسات العامة مشكلة قلة منابر النشر العربية العلمية المحكّمة، سيرًا على نهج إهمال هذه التخصصات حفاظًا على الفراغ القائم بين العلوم الاجتماعية والسياسية من جهة، ومناهج الإدارة والسياسات المطبقة في الدول من جهة أخرى. أما علم الإدارة فبات مقصورًا على إدارة الأعمال فقط. والحقيقة أن إدارة مؤسسات الدول والمؤسسات العامة، ووضع السياسات العامة في الاقتصاد والصحة والتعليم والبيئة وغيرها، هما عِلمان أيضًا. يدرك صناع القرار ذلك، ويستعينون بخبراء متخصصين وموظفين مدربين في مدارس الإدارة وغيرها، ولكنهم يتجنبون تشجيع الأبحاث في الإدارة والسياسات العامة. وليس هذا "المزاج" غير المكترث بالبحث العلمي مقصورًا على هذين المجالين، فحالهما كحال العلوم الاجتماعية عمومًا. 

وينوي المركز العربي تقديم إسهامٍ متواضع في سد هذا الفراغ عبر تأسيس هذه الدورية المحكّمة التي تبدأ نصف سنوية، ويمكن تحويلها إلى فصلية بعد تقييم مدى نجاح التجربة لناحية توافر الدراسات النوعية.

يشيع فهمٌ ضيقٌ للإدارة والسياسات العامة، يُحوَّل بموجبه تميز هذه المجالات وخصوصيتها إلى فصل عن السياسة. وبحسب هذا الفهم نفسه، فإن عملية صنع السياسات العامة تنحصر في جوانبها الفنية والتنفيذية، ويقوم عليها متخصصون فنيون فقط، أمّا تنفيذ هذه السياسات وإدارة المؤسسات العامة للدولة فعمليةٌ تنظيمية خالصة، يتولاها موظفون يعملون لدى الدولة. وتُعالَج إشكاليات الإدارة والسياسات العامة، غالبًا، باعتبارها مسائل فنية تغيب عنها الإشكالات المفهومية والأهداف الاستراتيجية المتعلقة بالتنمية والنهوض بالبلدان العربية ومجتمعاتها. ولا شك في أن الجانب المهني وإتقانه والبحث فيه أمر مهمّ، ولهذا سمّينا هذه الدورية حِكامة، على وزن فِعالة الذي غالبًا ما يصوغ ألفاظ النشاط الإنساني المهني مثل صناعة وتجارة وإدارة، فترجمنا في تسمية المجلة لفظ Governance "حِكامة" (وليس حوكمة مثلًا). ولكن الدورية، إذ تشدد على ذلك، فهي تشدد أيضًا على تجاوزه إلى البحث النظري النقدي الذي لا يفصل الإدارة والسياسات العامة عن فهم السياسة التي تصنع السياسات.

ويفاقم ضعفُ اهتمام المؤسسات التعليمية بحقلَي الإدارة العامة والسياسات العامة، وندرة المراكز والمشاريع البحثية التي تهتم بدراسة موضوعاتهما على هذا النحو، حدّةَ الإشكالية.

تتطلب جهود الإصلاح والتنمية السياسية وبناء الحكم الرشيد في بلداننا العربية منهجًا علميًا في وضع السياسات وفي الإدارة، كما تتطلب نظرةً أشمل للإدارة والسياسات العامة، بحيث تعالج الجوانب الإدارية والفنية للإدارة والسياسة، ولكن لا تفصل بينهما وبين السياسة، وإنما تقوم على بناء فهمٍ جديد ومستحقٍ لهما.

هذه هي الغاية الأساسية المرجوّة من دورية جديدة، بعنوان حِكامة. وهي الدورية المحكّمة السادسة التي يصدرها المركز ضمن رسالته الرامية إلى النهوض بالبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتعزيز إنتاج المعرفة العلمية باللغة العربية.

نطرح حِكامة في هذا الإطار باعتبارها قوةَ دفعٍ فكري جديدة غايتُها تشجيع البحث العلمي في التخصصين المذكورين، في حدود حقل التخصص، وفي تجاوزه أيضًا نحو تداخل التخصصات، وعبر توسيع حدود الحقل بما يستعيد الأركان السياسية والاجتماعية للإدارة والسياسات العامة، ومساحةً للتفكير والنقاش العلمي حول ما ينبغي لنظم الحكم العربية، بقيمها ومؤسساتها وأجهزتها وسياساتها، أن تقوم به وتنهض إليه من أجل نقل المجتمعات العربية إلى مجتمعات حديثة سياسيًا وعادلة اجتماعيًا.

ننشد في حِكامة أن تكون منبرًا مهنيًا أكاديميًا رصينًا، ومساحة للنقاش العلمي وطرح الرؤى البحثية النظرية والتطبيقية في مجالَي الإدارة العامة والسياسات العامة في الوطن العربي، انطلاقًا من تقييم الأثر الذي تحدثه السياسات العامة في حياة المواطنين Citizen-Centered، بهدف إنتاج معرفة موجهة لحل مشكلات الإدارة والسياسات العامة Problem-Solving Oriented Research في القطاعات كافة.

تأمل حِكامة أن تكون عونًا للباحثين المتخصصين؛ ليس فقط بتقديم منصة للنشر في أجواء بحثية أكاديمية هي أجواء المركز العربي للأبحاث ومعهد الدوحة للدراسات العليا، وإنما أيضًا ببذل الجهد في تحكيم الأوراق الواردة عند أفضل الزملاء المتخصصين، وتحريرها علميًا ولغويًا. كما تأمل هيئة تحرير الدورية أن يخدم صدورها وتوزيعها الدائرة الأوسع من المعنيين بمجال الحكم وصنع السياسات، وتنفيذها، وإدارة المؤسسات العامة للدولة، سواء أكانوا من نخبة الدولة ومسؤوليها والعاملين فيها، أم من مؤسسات المجتمع المدني المنتمية إلى الفضاء العام، والتي يرتبط مجال اهتمامها بالسياسات العامة.

ليس التأسيس سهلًا، وبناء المؤسسات عملٌ سامٍ ونبيل، والاستمرار والحفاظ على المستوى في حالة المؤسسات الأكاديمية، لا يقلّان صعوبة، ولكن التجربة علمتنا أنه في حالة الدوريات العلمية توضع مقومات الاستمرار منذ البداية، بوضع معايير النشر وعدم التهاون بشأنها من العدد الأول، حتى لو كان الكيف على حساب الكمّ، فالكمّ يأتي لاحقًا على أسس سليمة.

نبارك لهيئة تحرير المجلة وللباحثين في مجالَي تخصصها هذا الإنجاز ونتمنى لهم التوفيق.

المراجع